الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ، ذَكَرَهُمَا الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ وَقَالَ: وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قَدْ كَانَ قَبْلَهُ مُؤْمِنُونَ، وَلَكِنْ يَقُولُ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِكَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ لَهُ اتِّجَاهٌ، وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَاهُنَا أَثَرًا طَوِيلًا فِيهِ غَرَائِبُ وَعَجَائِبُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقِ بْنِ يَسَارٍ، وَكَأَنَّهُ تَلَقَّاهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ.خُلَاصَةُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مُوسَى عليه السلام لَمَّا نَالَ فَضِيلَةَ تَكْلِيمِ اللهِ تَعَالَى لَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ فَسَمِعَ مَا لَمْ يَكُنْ يَسْمَعُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَا شِبْهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ فِي هَذَا الْعَالَمِ، طَلَبَ مِنَ الرَّبِّ تَعَالَى أَنْ يَمْنَحَهُ شَرَفَ رُؤْيَتِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ حَتْمًا أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ الَّتِي مِنْهَا كَلَامُهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَمَا أَنَّهُ سَمِعَ كَلَامًا لَيْسَ كَمِثْلِهِ كَلَامٌ بِتَخْصِيصٍ رَبَّانِيٍّ- اسْتَشْرَفَ لِرُؤْيَةِ ذَاتٍ لَيْسَ كَمِثْلِهَا شَيْءٌ مِنَ الذَّوَاتِ، كَمَا فُهِمَ مِنْ تَرْتِيبِ السُّؤَالِ عَلَى التَّكْلِيمِ، فَلَمْ يَكُنْ عَقْلُ مُوسَى- وَهُوَ فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنَ الْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ بِدَلِيلَيِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ- مَانِعًا لَهُ مِنْ هَذَا الطَّلَبِ، وَلَمْ يَكُنْ دِينُهُ وَعِلْمُهُ بِاللهِ تَعَالَى وَهُمَا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا أَيْضًا- مَانِعَيْنِ لَهُ مِنْهُ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لَهُ: لَنْ تَرَانِي وَلِكَيْ يُخَفِّفَ عَلَيْهِ أَلَمَ الرَّدِّ وَهُوَ كَلِيمُهُ الَّذِي قَالَ لَهُ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِالْوَحْيِ إِلَيْهِ: {وَاصْطَنَعَتْكَ لِنَفْسِي} (20: 41) أَرَاهُ بِعَيْنَيْهِ وَمَجْمُوعِ إِدْرَاكِهِ مِنْ تَجَلِّيهِ لِلْجَبَلِ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ سِوَاهُ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ جِهَتِهِ هُوَ لَا مِنَ الْجُودِ الرَّبَّانِيِّ، فَنَزَّهَ اللهَ وَسَبَّحَهُ وَتَابَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الطَّلَبِ، فَبَشَّرَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ اصْطَفَاهُ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ- أَيْ: بِدُونِ رُؤْيَتِهِ-، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَأْخُذَ مَا أَعْطَاهُ، وَيَكُونَ مِنَ الشَّاكِرِينَ لَهُ.{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} الِاصْطِفَاءُ: اخْتِيَارُ صَفْوَةِ الشَّيْءِ، وَصَفْوُهُ؛ أَيْ: خَالِصُهُ الَّذِي لَا شَائِبَةَ فِيهِ، وَمِنْهُ الصَّفِّيُّ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ مَا يَصْطَفِيهِ الْإِمَامُ أَوِ الْقَائِدُ الْأَكْبَرُ مِنْهَا وَيَخْتَارُهُ لِنَفْسِهِ، كَاخْتِيَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم السَّيْفَ الْمَعْرُوفَ بِذِي الْفَقَارِ مِنْ غَنَائِمِ غَزْوَةِ بَدْرٍ. وَتَعْدِيَةُ الِاصْطِفَاءِ هُنَا بِـ {عَلَى} لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى التَّفْصِيلِ، فَالْمَعْنَى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكُ مُفَضِّلًا إِيَّاكَ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَهْلِ زَمَانِكَ بِالرِّسَالَةِ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ {بِرِسَالَتِي} وَالْبَاقُونَ {بِرِسَالَاتِي} فَإِفْرَادُهَا بِمَعْنَى الِاسْمِ مِنَ الْإِرْسَالِ، وَجَمْعُهَا بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ مَا أُرْسِلَ بِهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالشَّخْصِيَّةِ، وَقِيلَ بِتَعَدُّدِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ مَا أَوْحَاهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ إِلَى مُوسَى، وَهُوَ مَوْضُوعُ رِسَالَتِهِ، وَتَسْمِيَةُ الْأَسْفَارِ الْخَمْسَةِ بِالتَّوْرَاةِ اصْطِلَاحِيَّةٌ، وَقَدْ يُطْلِقُونَهَا عَلَى جَمِيعِ كُتُبِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ عِيسَى صلى الله عليه وسلم وَاصْطَفَيْتُكَ بِكَلَامِي: أَيْ بِتَكْلِيمِي لَكَ بَعْدَ وَحْيِ الْإِلْهَامِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ مَلَكٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَهُوَ مَا طَلَبَ رَفْعُهُ لِتَحْصِيلِ الرُّؤْيَةِ مَعَ الْكَلَامِ، وَوَحْيُ اللهِ تَعَالَى ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (42: 51) فَهَذَا النَّوْعُ الْأَوْسَطُ هُوَ الْأَعْلَى، وَقَدْ أُعْطِيَ لِمُوسَى صلى الله عليه وسلم بَعْدَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِيهِ مِنْ وَجْهِ الْخُصُوصِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ (4: 164).{فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أَيْ: فَخُذْ مَا أَعْطَيْتُكَ مِنَ الشَّرِيعَةِ- التَّوْرَاةِ- وَكُنْ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الشُّكْرِ لِنِعْمَتِي بِهَا عَلَيْكَ وَعَلَى قَوْمِكَ، وَذَلِكَ بِإِقَامَتِهَا بِقُوَّةٍ وَعَزِيمَةٍ، وَالْعَمَلِ بِهَا، وَكَذَا لِسَائِرِ نِعَمِي، فَإِنَّ حَذْفَ مُتَعَلِّقِ الشُّكْرِ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِهِ، كَمَا أَنَّ صِيغَةَ الصِّفَةِ مِنْهُ تَدُلُّ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَالرُّسُوخِ فِيهِ.
يَعْنِي بِالْعَدْلِيَّةِ جَمَاعَتَهُ الْمُعْتَزِلَةِ؛ فَإِنَّهُمْ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ. فَانْظُرْ إِلَى جَعْلِهِ إِثْبَاتَ الرُّؤْيَةِ الثَّابِتَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهَا مُنَافِيًا لِلِاتِّسَامِ بِالْإِسْلَامِ، وَالتَّسَمِّي بِأَهْلِ السُّنَّةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَنْفُونَ التَّشْبِيهَ فِي الرُّؤْيَةِ بِالتَّصْرِيحِ كَمَا يَنْفِيهِ هُوَ، فَلَوْلَا تَعَصُّبُ الْمَذْهَبِ لَمَا أَلْزَمَهُمْ إِيَّاهُ بِدَلَالَةِ اللُّزُومِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي قَالُوا فِيهَا لَازِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ قِيلَ مُطْلَقًا وَقِيلَ فِيمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْتِزَامِ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ لَهُ، وَأَمَّا مَا صَرَّحَ بِنَفْيِهِ فَلَا وَجْهَ لِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، وَمَنْ نَسَبَهُ إِلَيْهِ، وَذَمَّهُ بِهِ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا.وَلَوْ أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ وَشَاعِرَ الْعَدْلِيَّةِ لَمْ يَقُولَا مَا قَالَا مِنَ الطَّعْنِ وَالْهَجْوِ فِي أَهْلِ السُّنَّةِ، بِأَنِ اكْتَفَى الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَأْوِيلِ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ بِمَا أَوَّلَهَا بِهِ مِنْ كَوْنِ الرُّؤْيَةِ فِيهَا عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ الْجَلِيَّةِ، لَمَا جُوزِيَا عَلَى ذَلِكَ بِمِثْلِ ذَنْبِهِمَا أَوْ أَكْثَرَ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْمُنِيرِ الْإِسْكَنْدَرِيُّ فِي الِانْتِصَافِ حَاشِيَتِهِ عَلَى الْكَشَّافِ: وَلِلشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ صَاحِبِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَغَيْرِهِ مِثْلُ هَذَا الشِّعْرِ الْمُحْزِنِ، وَالْبَادِئُ بِالشَّرِّ أَظْلَمُ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَجُوا عَدْلِيَّةَ الْمُعْتَزِلَةِ بِمِثْلِ مَا هَجَا بِهِ شَاعِرُهُمْ أَهْلَ السُّنَّةِ كَافَّةً، هُمْ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ مِثْلَهُمْ بِالتَّأْوِيلِ، وَيُشَنِّعُونَ عَلَى إِخْوَانِهِمْ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِيِّينَ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ التَّفْوِيضِ كَالنُّصُوصِ فِي عُلُوِّ اللهِ تَعَالَى عَنْ خَلْقِهِ، وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، الَّتِي اتَّبَعُوا فِيهَا إِجْمَاعَ السَّلَفِ أَوْ جُمْهُورِهِمُ الْأَعْظَمِ فِي إِمْرَارِهَا، كَمَا جَاءَتْ مَعَ تَنْزِيهِمِ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْحَدِّ وَالْحُلُولِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ عَقِيدَتِهِمْ أَنَّهُ تَعَالَى مُبَايِنٌ لِخَلْقِهِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (42: 11) بَلْ أَوَّلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ نَفْسُهُ نُصُوصَ الْمَعِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ} (57: 4) فَخَصَّهُ بِالْعِلْمِ.فَالْحَقُّ الْوَاقِعُ أَنَّ الْمُخْتَلِفِينَ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الصَّادِقِينَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَيُعَظِّمُونَهَا، وَلَكِنْ غَلَبَ عَلَى قَوْمٍ تَرْجِيحُ جَانِبِ التَّنْزِيهِ حَتَّى انْتَهَى بِبَعْضِهِمْ إِلَى التَّعْطِيلِ، وَجَعَلَ فِي ذَلِكَ حَتَّى وَقَعَ بَعْضُهُمْ فِي التَّشْبِيهِ فِعْلًا، كَأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ خَلَوْا مِنَ الْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ فِي ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَا عَدَا اسْمَ الْجَلَالَةِ مِنْ أَلْفَاظِ اللُّغَةِ قَدْ وُضِعَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ لِلتَّعْبِيرِ بِهِ عَنِ الْمَخْلُوقَاتِ وَشُئُونِهَا، فَالْفَرِيقَانِ أَرَادَا تَعْظِيمَ الرَّبِّ تَعَالَى، وَسَدَّ ذَرِيعَةِ الْقَوْلِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ الَّذِي يُرْضِيهِ، هَؤُلَاءِ خَافُوا التَّعْطِيلَ بِرَدِّ شَيْءٍ مِنَ النُّصُوصِ أَوْ تَحَكُّمِ الْأَهْوَاءِ فِي تَأْوِيلِهَا- وَأُولَئِكَ خَافُوا الْوُقُوعَ فِي تَشْبِيهِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِهِ، وَسَدِّ ذَرِيعَةٍ مَا يُعَدُّ نَقْصًا فِي حَقِّهِ، فَالنِّيَّةُ كَانَتْ حَسَنَةً مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الشَّيْخُ حُسَيْنُ الْجِسْرِ الطَّرَابُلُسِيُّ- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي دَرْسِهِ عِنْدَ قِرَاءَةِ شَرْحَيِ السَّنُوسِيَّةِ وَالْجَوْهَرَةِ.وَلَكِنِ الَّذِينَ ضَلُّوا بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّعْطِيلِ كَثِيرُونَ حَتَّى خَرَجَتْ بِهِ عِدَّةُ فِرَقٍ مِنَ الْمِلَّةِ بَعْضُهُمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَبَعْضُهُمْ بَاطِنًا لَا ظَاهِرًا، كَالْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ تَرَكُوا أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ وَصِيَامٍ، زَاعِمِينَ أَنَّ لَهَا مَعَانِيَ غَيْرَ مَا عَمِلَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَكَغُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا فِي التَّأْوِيلِ إِلَى مَا وَرَاءَ طَوْرِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ وَأَسَالِيبِ اللُّغَةِ، فَادَّعُوا أَنَّهُمْ يَرَوْنَ اللهَ تَعَالَى عِيَانًا فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ وَيَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ كَالْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَعْلَمُ بِاللهِ تَعَالَى، وَمِنْهُمْ مَنِ ادَّعَى رَفْعَ التَّكْلِيفِ عَمَّنْ بَلَغَ مَقَامَاتَهُمْ فِي الْمَعْرِفَةِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ غَلَا فِي وُحْدَةِ الْوُجُودِ إِلَى ادِّعَاءِ الرُّبُوبِيَّةِ لِلْبَشَرِ وَالْبَقَرِ، وَالْحَجَرِ وَالْمَدَرِ، وَمَا يَسْتَحِي أَوْ يَتَنَزَّهُ قَلَمُ الْمُتَدَيِّنِ الْأَدِيبِ عَنْ ذِكْرِهِ-، وَإِلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مُوَحِّدٍ وَمُشْرِكٍ، وَمُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَبَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَعَادِلٍ وَجَائِرٍ، وَطَيِّبٍ وَخَبِيثٍ، وَلَا بَيْنَ نَافِعٍ وَضَارٍّ، وَطُهُورٍ وَرِجْسٍ. وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى عَقَائِدِهِمْ أَوْ مَزَاعِمِهِمْ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَمْ يَقَعْ مِنْ فِرْقَةٍ تَأْخُذُ بِظَوَاهِرِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، فِي مِثْلِ هَذَا الضَّلَالِ الْبَعِيدِ، فَهَؤُلَاءِ الظَّاهِرِيَّةُ وَمَنْ يُسَمُّونَهُمْ غُلَاةُ الْحَنَابِلَةِ مِنْ أَقْوَى الْمُسْلِمِينَ إِيمَانًا، وَأَصَحِّهِمْ إِسْلَامًا، وَمَا رَمَوْا بِهِ مِنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ الَّذِي نَفَاهُ النَّصُّ وَالْعَقْلُ ظُلْمٌ؛ سَبَبُهُ التَّعَصُّبُ الْمَذْهَبِيُّ. فَإِذَا كَانُوا يَثْبُتُونَ لِلرَّبِّ تَعَالَى كُلَّ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ، وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ فِيمَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِهِ، حَتَّى فِيمَا يُفَوِّضُونَ كُنْهَهُ إِلَيْهِ تَعَالَى لِلِاعْتِرَافِ بِأَنَّ عُقُولَهُمْ لَا تُحِيطُ بِهِ، فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يُثْبِتُوا لَهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ بِقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (42: 11) وَهُوَ مِمَّا يَعْقِلُونَهُ وَلَا يَعْقِلُونَ ضِدَّهُ؟ كَلَّا إِنْ تَعَصَّبَ أَصْحَابُ النَّظَرِيَّاتِ الْكَلَامِيَّةِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْهُمْ مَنْ مُتَأَوِّلَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ هُمُ الَّذِينَ افْتَاتُوا عَلَيْهِمْ بِمَا أَلْزَمُوهُمْ إِيَّاهُ مِمَّا نَفُوهُ مِنْ لَوَازِمِ مَا صَحَّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ عُلُوِّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَكَوْنِهِ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ وَيَضْحَكُ إِلَخْ. مَعَ اسْتِصْحَابِ نَصِّ التَّنْزِيهِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَى الْخَلْقِ وَالْخَالِقِ مَعَ انْتِفَاءِ التَّشْبِيهِ، وَإِنَّمَا ذَنْبُهُمْ عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَ نَظَرِيَّاتِ أَفْكَارِهِمْ فِي التَّحَكُّمِ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ النُّصُوصِ، وَلَمْ يُكَلِّفِ اللهُ تَعَالَى أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ هَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفِيَّةَ الْكَلَامِيَّةَ، وَإِنَّمَا كَلَّفَهُمُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ رُسُلُهُ- صَلَوَاتِ اللهِ وَسَلَامِهِ عَلَيْهِمْ- وَأَصْلُ الدِّينِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ تَعَالَى بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ إِلَى خَلْقِهِ هُوَ أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ، وَأَنْ يَعْبُدُوهُ بِمَا شَرَّعَهُ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِ؛ إِذْ لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُشَرِّعَ شَيْئًا مِنَ الدِّينِ بِدُونِ إِذْنِهِ. فَاللهُ تَعَالَى قَدْ شَرَّعَ الدِّينَ لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، وَهَذِهِ الْفَلْسَفَةُ الْكَلَامِيَّةُ مِنْ دَقَائِقِ النَّظَرِيَّاتِ الْفِكْرِيَّةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِالْغَوْصِ عَلَيْهَا أَفْرَادٌ مَعْدُودُونَ مِنْ أَذْكِيَاءِ الْأُمَمِ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا وَاخْتَلَفُوا؛ لِأَنَّ التَّفَرُّقَ وَالِاخْتِلَافَ مِنْ لَوَازِمِهَا الْبَيِّنَةِ، فَعَصَوُا اللهَ تَعَالَى فِي نَهْيِهِ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، فَكَيْفَ يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كُلِّفُوهَا، وَإِذَا كَانَتْ صِحَّةُ الْإِيمَانِ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا فَكَمْ عَدَدُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأُمَّةِ كُلِّهَا؟ وَإِذَا كَانَ الْحَقُّ فِيهَا وَاحِدًا كَمَا يَقُولُونَ فَكَمْ عَدَدُ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْهُمْ؟ وَكَيْفَ السَّبِيلُ لَدَى كُلِّ مَنِ احْتَكَرَ الْحَقَّ فِيهَا لِنَفْسِهِ إِلَى تَلْقِينِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنَ الْأُمَّةِ مَا يَرَاهُ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُ سِوَاهُ؟ فَإِنْ كَانَ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللهُ غَيْرَهُ، فَفِهْمُ الدِّينِ مُتَعَذَّرٌ عَلَى أَكْثَرِ الْأُمَّةِ.
|